عن أي نظام عالمي جديد نتحدّث؟

عن أي نظام عالمي جديد نتحدّث؟

27 فبراير 2022
+ الخط -

رحّب مثقفون عربٌ كثيرون، وبالأخص من الفلسطينيين، باجتياح روسيا أراضي أوكرانيا، أملا في بروز نظام عالمي متعدّد الأقطاب، وبالتالي قد ينهي، أو على الأقل يُضعف، الهيمنة الأميركية على الدول والشعوب، وهذا مطلب أو حلم مُبرّر. ولكن كيف يتحقق ذلك، إذا كانت البداية ترسيخ الغزو العسكري حلا يمارسه من يتفوق بالقوة العسكرية على الشعوب الأخرى؟

المسألة الجوهرية هنا ليست في إنكار أن أميركا هي البادئة في استفزاز روسيا بإصرارها على إدخال أوكرانيا في حلف الناتو، وما يشكله من تهديد حقيقي على روسيا، بهدف احتوائها، لكن قرار الرئيس الروسي، بوتين، باجتياح وغزو عسكري، يعطي شرعية لحروب التدخل الأميركية، ويثبته أساسا مقبولا لتنافس القوى العالمية، وبل يساهم في تقويض نضال الشعوب ضد الحروب وأساليب البلطجة الأميركية.

نفاق أميركا بشأن الالتزام بالقانون الدولي معروف، فهي السبّاقة في خرق حقوق الإنسان، وعدم احترام سيادة الدول، ودعمها الدولة الصهيونية، والدكتاتوريات في العالم، وإدانتها القصف الروسي ضد أوكرانيا مهزلة، وكانت السباقة في التدخل في النظام السياسي في كييف، وحتى في الانتخابات النيابية والرئاسية، بشكل مفضوح. لا جدال هنا بشأن الكذب الذي تمارسه واشنطن، ولكن كيف نقبل اجتياح بلد آخر، ونحن العرب عانينا من ويلات الغزو والاحتلال والحروب؟

لا جدال بشأن الكذب الذي تمارسه واشنطن، ولكن كيف نقبل اجتياح بلد آخر، ونحن العرب عانينا من ويلات الغزو والاحتلال والحروب؟

القول إن رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، ورّط بلده بإطلاق تصريحات والارتماء في حضن واشنطن صحيح، ولم يكن الوحيد من رؤساء أوكرانيا الذي اتجه إلى محاباة واشنطن وحليفتها المدللة إسرائيل، فأوكرانيا أرسلت قواتها إلى العراق دعما للاحتلال الأميركي، إضافة الى تأييد زيلينسكي الفاقع للعدوان الصهيوني على قطاع غزة في مايو/ أيار عام 2021، ولكن ذلك كله لا يبرّر العملية العسكرية الروسية التي تستعدي الشعب الأوكراني نفسه، مهما حاول المتحدّثون الرسميون الروس الادّعاء أنهم يثمنون علاقة روسيا مع الشعب الأوكراني، فتمثُل روسيا بأميركا يضر شعوب العالم، ولا يخدم أي قضية عادلة، خصوصا وأنه سبق لروسيا التدخل العسكري واستخدام القصف الجوي في سورية، خدمة لمصالحها، فالهدف لم يكن إنقاذ النظام وحسب، ولكن للحفاظ على نفوذها وللمشاركة في تقرير مسار الأحداث في سورية ودورها في المنطقة. وحتى لو سلمنا "أنه كان تدخلا ضروريا" في مواجهة المخطّطات الأميركية، هناك خلل في دعم التدخل الروسي، فيما النظام الروسي أرسى تعاونا أمنيا مع إسرائيل وتنسيقا، حيث تغضّ روسيا النظر عن غارات إسرائيلية تستهدف قواعد تدريب حزب الله ومسارات شحنات السلاح التابعة للحزب اللبناني. أي أن النظام الروسي اليوم هو نظام مصالح، لا يتبنّى الحركات التحررية، ويحرص على علاقات قوية مع إسرائيل، على الرغم من عدم اعترافه بالاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية وغزة بما في ذلك القدس الشرقية. ليس الغرض هنا تقييم الموقف الروسي المتمايز عن واشنطن، ولكن حين تتصرف روسيا بوتين بالعقلية الأميركية نفسها، فهي تضرّ الجميع.

الغريب أن نشطاء كثيرين وبعض المثقفين يبرّرون الغزو الروسي لأوكرانيا بحجة أن أميركا تقوم بالمثل، وعليه؛ فأي نظام متعدّد القطبيات نريد؟ فإذا كانت القوى المتنافسة تعتمد المعايير نفسها، فما هو مصير الدول الصغرى؟ هنا يجب التأكيد أنه لا يمكن دعم موقف الرئيس الأوكراني، لكن لومه واتهامه بحق بتوريط بلاده في الصراع الروسي الأميركي، بهذه الطريقة، لا يلغي مسؤولية الرئيس بوتين، وهو الطرف الأقوى، من اتخاذ قرارٍ متهوّر بدخول جيشه أوكرانيا.

تدوس أميركا القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن كل يوم، ومن دون توقف

المقولة التي تتردّد إن صراع المصالح في عالم متعدد القطبية يحد من سيطرة أميركا فيه من الصحة الكثير، ولكن كيف ستكون قواعد اللعبة إذا كان الجميع يتعامل بعقلية فرض القوة؟ وتصبح الشعوب ضحية هذا التنافس؟ غني عن القول إن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، والمقارنة غير دقيقة، فموسكو في عهد الاتحاد السوفياتي احتضنت جميع حركات التحرّر في العالم، وليس الفلسطينيين فحسب، لكن ذلك لا يعني أن الاتحاد السوفياتي لم يرتكب أخطاء، وأن تاريخه فوق النقد، فدخول قواته أفغانستان، بعد تدبير المخابرات الأميركية انقلابا في كابول بغرض حصار الاتحاد السوفياتي كان أحد أسباب إضعاف كل المعسكر الاشتراكي، إضافة إلى أن الاحتلال السوفياتي أو اي احتلال، مهما كانت أسبابه، لا يمكن أن يحدث من دون خرق حقوق من هم تحت الاحتلال. وواشنطن كانت تعرف ما تخطط له يوم استدرجت موسكو إلى أفغانستان، بغض النظر عن تبعات الحرب "المغلّفة بالدين" التي أشعلتها وما زلنا نعاني منها، ولكن في سبيل هزيمة الاتحاد السوفياتي، وتبوؤ مكانة القوة العظمى الوحيدة، لم يهم واشنطن عذابات الشعوب ولا تداعيات مخططاتها، ولم تتغير واشنطن كثيرا، فاستفزازها موسكو في أوكرانيا كان مقصودا ومتعمّدا، لكن ذلك لا يستوجب علينا دعم الغزو الروسي، حتى وإن كنا ندعم أو نتفهم رفض روسيا انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.

نعي أن أميركا لا تريد بروز قوة عظمى أخرى، وتحاول تقويض نفوذ الصين وروسيا، لكن هناك جانبان للموقف من الاجتياح الروسي لأوكرانيا. الأول أخلاقي؛ فحتى وإن تباين تقييمنا لموسكو وواشنطن، ونعرف الفرق بينهما، لا يمكن لنا، خصوصا وأننا أصحاب قضية عادلة، وهي القضية الفلسطينية، أن نؤيد أي احتلال، لا يحق لنا أن نبرّر ذلك باسم القضية الفلسطينية، ولا باسم إدانة غزو العراق، وما خلّفه من دمار علينا. الجانب الآخر سياسي؛ فما تفعله روسيا يُنتج عداءً من الشعب الأوكراني، وهذا ما يؤدي إلى معاداة هذا الشعب من يساند اجتياح بلاده، وهو شعب مثل كثيرين بيننا، تتولد لديه ردة فعل عاطفية ضد من ساند من غزو بلاده، وهذا يدفع أغلبية إلى الاتجاه إلى الطرف المقابل، أميركا وإسرائيل.

موقفنا من عداء واشنطن الشعوب واضح، ويجب أن لا يكون فيه أي لبس، لكن اعتبار الغزو الروسي لأوكرانيا نصراً للقضية الفلسطينية غير صحيح

استراتيجيا، تدوس أميركا القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن كل يوم، ومن دون توقف، فالقوى التي تعد نفسها عظمى بقوة ترسانتها العسكرية، والأمنية والسبرانية، لا تأبه بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، إلا حين تحتاج توظيف حقوق الإنسان لتنفيذ سياساتها العدوانية، وفي التدخل في شتّى البلدان. وذلك لا ينطبق علينا، إذ إننا نسعى إلى الحفاظ على القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان في نضال الشعوب العربية، من أجل التحرّر والحرية، فليس من مصلحتنا تأييد الدوس على القانون الدولي من أي طرف كان.

معركة تحرّر الشعوب نضالية وسياسية، وأخلاقية، والقوى المهيمنة الاستعمارية، كما دولة الاحتلال الصهيونية، لا تردعها النوازع الأخلاقية، ولذا العبء علينا ثقيل، وما لا نقبله لشعوبنا يجب ألا نقبله للشعوب الأخرى، بغض النظر عن رأينا في الحكومات والدول، فبعكس قوى الاستعمار، ما يحرّكنا هو صرختنا ضد الظلم وإيماننا بالحرية والعدالة، الخيار ليس بين تأييد أميركا أو تأييد ما أقدمت عليه روسيا ، فحتى لو أيدنا موقف روسيا في المواجهة مع أميركا، لا يعني ذلك أن نؤيد ردة فعل روسيا. موقفنا من عداء واشنطن الشعوب واضح، ويجب أن لا يكون فيه أي لبس، لكن اعتبار الغزو الروسي لأوكرانيا نصرا للقضية الفلسطينية، غير صحيح، فنحن لا نبني آمالنا على غزو الشعوب، حتى لو قررنا أن روسيا صديقة لنا.